أضواء على الأنانية القاتلة.. بقلم الكاتب/حشاني زغيدي

 أضواء على الأنانية القاتلة

في عالم الأنانية، يحتكر كل شيء،، تحتكر الحقائق، و تحتكر المعرفة، يحتكر الإيمان، و يحتكر الطهر، تحتكر الفضيلة، و تحتكر الخيرية، و تحتكر الوطنية، و يحتكر الإبداع، و تحتكر ، السلع و البضائع، في عالم الأنانية كل شيء محتكر، و كل الأشياء محتكرة، في عالم الأنانية يحتكر الدين و السياسة، في عالم الأنانية   تصبح المعاني و المفاهيم محتكرة، فيصبح الفن و الثقافة و الأدب أماكن محجوزة ، كأن ذلك العالم مخلوق لنسق وحيد، مخصص لفئة أو طائفة بعينها ، أو مجموعة محددة من البشر، فيصبح العالم مرهون، محبوس في عالم الأنا .

و حين نكشف اللثام عن تلك الأنانية يظهر القبح و الخبث، و  لؤم الطباع،  لأن  الأنانية  مرض عضال  من أمراض البشرية،  فبسبب تلك الأنانية ارتكبت أول الجرائم ،  و سقطت أول  قطرات الدماء  طاهرة، في عالم نظيف لم يسبق أن  عرف الغدر و الجريمةو الخيانة  .

و بسبب تلك الأنانية   ظهرت الغيرة و الحقد و الكراهية فخرجت أول كلمات إبليس عليه لعنة من  الله  بالاستعلاء و الكبر المذمومين   ( أنا خير منه )  و في عالم الأنانية   ينشأ الطمع و الجشع، فتحتكر الثروة و الموارد  ، فأصبح   رأس المال حكرا على مجموعة متغلبة، أو تحت قبضة رجال متسلطين ، يحجرون  النفع العام، فلا الضعيف ينال حقه و لا المسكين   و لا الفقير،  بل كبرت  تلك الأنانية ليصير المال ربا يعبد دون الله تعالى  .

و لعل  أدق تصوير استحضرته و أنا أتناول المقال  مقولة رائعة اقتطفتها من كتاب في ظلال القرآن للأديب الشاعر و المفكر سيد قطب رحمه، وجدت فيه  التصوير رائع   لأنانية حب المال يقول فيها صاحب الظلال يقول    :

"  وقارون في قصتنا يمثل قوة المال وسطوته ، حين يستأثر به صاحبه ، ويظن كل الظن أنه مالكه و مجتبيه  ومحصله وجامعه ، مهما كانت أسباب جبايته وتحصيله ، وأنه إنما أوتيه بقدرته ، فهو المتصرف فيه وحده ، وما دام قد جمعه بسبب منه ومقدرة ، فلم لا ينفقه أيضاً بحرية منه و انطلاق ؟!

ولقد بلغ مال قارون مبلغًا عظيمًا ، يعجز الرجال عن حمل مفاتيح كنوزه . يقول الحق تبارك وتعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) .

وبالطبع فإننا نلاحظ هنا الارتباط بين قصة موسى مع فرعون ذي الطول والحول ، ومصيره الأليم ، والتعقيب عليها بقصة قارون ذي المال و الجاه زيادة في تطمين النفوس المؤمنة إلى ضعف هذه القوى حين تبغي الفساد في الأرض .

وهنا يبرز السؤال كيف يكون البغي بالمال ؟

لم تتعرض السورة الكريمة لصور البغي ، ولم تذكر فيم كان البغي لتدعه مجهولاً لا يشمل شتى الصور ، فربما كان البغي (بظلمه قومه وغصبهم أرضهم وأشياءهم ، كما صنع طغاة المال في كثير من الأحيان ، وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال ، حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ، ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب وتفسد الحياة) وربما بغي عليهم بانتقاص حقهم ، أو تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال لقاء أجر زهيد لا يستطيعون معه مواجهة تكاليف الحياة " .انتهى

و. من صور الأنانية القاتلة، صور  الصلف و الكبر و البطر و الظلم، غمط الناس  ، حين تخلد  تلك الصفات الذميمة في كيان الانسان ؛  حتى يتخيل الأناني نفسه  إلها يعبد دون الله تعالى

"  وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين } اصنع لي  من  الطين  الآجر لأرتقي به إلى السماء  لأرى إله موسى  ...  وإني لأظنه من الكاذبين"  و يزيد صلفه و تكبره و استغلاه  و سوء ظنه و تشكيكه  بألوهية   رب  السماء،    و هنا الشك  و  هذا  الكفر مرده تلك الأنانية التي استولت على كيان الإنسان، ليصبح النظر و التفكير مغلق، و تصبح الأشياء في نظره ملكا  جبريا  للملك، و هذا  منتهى جنون العظمى  .

( ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار ) أنهار النيل ( تجري من تحتي ) من تحت قصوري ،   و هي صور لا بتخيل الإنسان أن يصل لمستوى   هذه السطوة في العنفوان و الجبروت.

و من صور الأنانية  أن يحبس النفع العام ،  فلا نقدم الأصلح و الأقدر  صاحب الكفاءة ، فالأناني لا يسره أن يرى أصحاب المواهب و الناجحين في المقدمة ، فالأناني عدو للنجاح ،  يرى نفسه أحق بكل المزايا ، يستأثر بها دون زملائه،، يرى نفسه  أحق بكل مكتسب ، و ربما هو أقل شأنا من غيره  ، و ربما لا يستطيع تحمل واجبات و تكاليف ما يراد  احتكاره ، تراه  يتباكى ليظهر في أعين الناس مظلوما و مقهورا ، و مبدأه  الغاية  تبرر الوسيلة،

و حين نسلط  الضوء على  أضارها أقول:

ومن أضرارها    أنها مجلبة للنقم ، مذهبة  النعم الموهوبة، محبطة  الأجر و المتوبة ، مورثة  الضغائن و الأحقاد،   ،   مخرجة  أسوء ما في النفس  من وضاعة و حقارة   دناءة  ،و في  محصولها  معول هدام،  يدمر كيان   الإنسان نفسه،  ، تؤذي بالآخرين  ، فتكون الخصومة بين مفاصل المجتمع،  و يحصل التنافر،  فيصبح القريب بعيدا  ،  و الحبيب عدوا  ، و تضيع المودات و الوسائج و الأرحام،  ومعها  تذهب منظومة قيم في المجتمع،

و لعل ما نراه اليوم في أحوال الناس  مرده لشيوع هذا المرض المدمر  ، و ما نراه من صور الأنانية الضاربة في كل مجالات الحياة، صور تحبس لها  الأنفاس.   .

لهذا كانت الأنانية أقوى عدو داخل النفس، فإن انتصر المرء عليها، كان سيدا، ميز الخير، و أدرك سبيله بسهولة، و أدرك مواطنه ، و حدد أماكنه ، و سهل عليه السير في ركبه؛ أما إذا امتلك كيان النفس، صعب عليه الانحياز للحق، و ظلت تلك العلوية تسيطر على أحكامه و قراراته، بل ظلت تكبل كل مواقفه و أحكامه  ، فتجعله أسير الأنا يرفض تزكية أيا كان ؛ لأنه ببساطة  يرى في نفسه الأفضلية، و يرى في نفسه السيد الذي ينقاد له الجميع .

أما أن تكون نفسه مشاركة في صياغة بنية الخير مع الخيريين فلا، و هذا هو الطبع الإنساني المدمر للمجتمعات و الكيانات.

وقد وجدت وصفا دقيقا للأناني للدكتور فواز الغبون ( الأناني يحمل الدكتوراء  في معرفة حقوقه ؛ لكنه أمي في معرفة حقوق غيره  )

فمتى ننتصر على هذا المرض العضال القاتل؟!

الأستاذ حشاني زغيدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل اقول قصيدة؟....بقلم الشاعر علي الهادي عمر أحمد

 هل أقول قصيدة في مدح من يحلو لدي الحديث أم أتغنى بالحروف عشقا في ذكر من بالقلب يسكن الوريد وتظل أحرفي ترقص فرحا في هوى من جعل القلب عبيد وي...