صديقي يوسف
في حي المهاجرين القديم حيث تُصعد الروائح الباردة من فنجان الشاي عند الصباح، كان سالم يجلس على عتبة دكان والده يقرأ خبراً في جريدة قديمة.
يوسف، الذي يعرفه من الطفولة،
مرّ كالعادة بخطوٍ هادئ،
ووقف دون أن يدق الباب؛
عرف سالم صديقًا قبل أن يعرف الزمان نفسه.
كبر الاثنان معًا،
يتشاركان أفراحهم،
وأحزانًا لا يبوحان بها إلا لبعضهما.
كان سالم شاعرًا بالكلمة،
يُحب أن يدوّن الأشياء الصغيرة التي لا يراها الناس؛
ويوسف مهندسٌ بسيط،
صامتٌ كالماء لكنه حاضر كلما احتاجه أحد. لم تكن صداقتهما مشهداً للاحتفال،
بل كانت عملاً يوميًّا من الوداعة والوفاء.
في يومٍ عاصفٍ حمل معه نفقًا من الأخبار السيئة،
خسر سالم عمله،
وتعثّر مشروعه الأدبي أمام ناشرٍ ادّعى التعاطف ثم اختفى.
تهافت حوله وجوهٌ كثيرة؛
بعضهم عرض نصائحه لمصلحته،
وبعضهم اقترب ليأخذ مقعده في غرفة النجاح المستقبلية.
لكن عندما اشتدّ الحال،
تبدّدت الوجوه كما تتبدد الضبابات.
وقف سالم على أعتاب غرفةٍ خاويةٍ من الضوءَ، يهمس لبعض أحرفه التي لا تزال تندلع في صدره،
حين دقّت قدما يوسف على الدرج.
دخل بصمت،
وضع كوب شاي على الطاولة،
ولم يسأل عن أسباب الحضور. جلسا،
تبادلا نظرتين،
وابتسم يوسف كمن يقول: هنا أنا،
ما تغيّر شيء.
لم يكن في كلام يوسف كلامُ حلّ سحريّ، بل فعلٌ بسيط: استمع لسالم حتى نفد الكلام من بين يديه، ثم بدأ يقرأ معه المسودات القديمة وكأنهما يضربان لحنًا واحدًا. عرض يوسف أن يساعد مادّياً ،
لكنه أكثر من ذلك قدّم الوقت، وثقافة الصبر، وذكريات الطفولة التي تذكّرهما بأنّهما أبعد من كونهما خيارًا عابرًا.
ثم جاءت لحظة امتحانٍ آخر: عرضٌ كبير قدمه أحد معارف سالم مقابل أن يغيّر سالم بعض مبادئه في النصوص ويستبدل أسماءً بجملةٍ براقةٍ تناسب السوق.
تلمّع ذلك العرض وجلس حوله عددٌ من المصلحين، لكن سالم تراجع.
كان في عينيه خيفتان:
الأولى من فقدان المال،
والثانية من فقدان ذاته.
في تلك الليلة، جلس يوسف إلى جانب صديقه الطويل الكلام والقصير الحكاية. قال له بصوتٍ لا يرتعش: «إن كنت ستجري على حساب ما تؤمن به، فستخسر أكثر من مالك. صداقتي لا تُقدَّم بثمن، ولا تُقايض بالشهرة المؤقتة.» أمسك سالم بيد يوسف ووجد فيها صخرة لا تميل. رفض العرض معًا، ووجها إلى صفحاتٍ بيضاءٍ أخرى، إلى ليلٍ أقصرٍ يحمل وعد الفجر.
مرت السنون، وتبدّل الزمان كما يفعل الزمان دائمًا؛ بعض الناس عادوا، وبعضهم رحلوا نهائيًا. لكن يوسف ظلّ هو نفسه: لا خيارًا متاحًا، ولا بديلاً يُنتظر. صار مرآة الوفاء التي يرى سالم فيها صورته حين ينسى من هو، ودفء الرفقة الذي يقيه قساوة الليالي الطويلة.
ذات يومٍ، جلس سالم ليكتب مقطعًا قصيرًا، وبدأ العبارة التي لا تخطئها ذاكرته: «إذا صادفت إنسانًا لا يريد غيرك ولا يعرف لغيرك مكانًا...» رفع رأسه، نظر إلى يوسف، فأدرك أن الصديق الحقيقيّ ليس مَن يرافقك وقت اليسر وحده، بل مَن يبقى عندما يتبدّل كلّ شيء من حولكما.
في النهاية، لم تكن صداقتهما قصة بطولاتٍ تروى على الممنّين، بل كانت حياةً بسيطةً تتقاسمها روحان: أحدهما يكتب ليبقَى، والآخر يقف ليحفظ بقاءه. وكان هذا كافياً.
سالم حسن غنيم
حكواتي الوجدان الشعبي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق