ليلة المولد
بدأت خيوط الظّلام تتسلّل شيئا فشيئاعلى
قريتنا المتربّعة على سفح جبل "الصّخر
الأسود "،أخذت أمّي في جمع أعواد يابسة من حديقة البيت وكلب الدّار يتبعها،وذيله لا يتوقّف عن الحركة وكأنّه ينتظر وليمة لهذه الّليلة المباركة؛ كيف لا وقد أصبح ينافس طعام الدّجاج والبطّ بل يسابقهم من مضرّة الجوع وعوز أهل البيت، إلّا من دّقيق و زيت وتين مجفّف..
خرجنا إلى باحة البيت نحن الأربعة..أخي الأكبر والّذي لم بتجاوز السّن العاشرة بعد وأنا وأختي وأخي الصّغير..كنّا على رؤوس بعضنا ،تقريبا بيننا عام وعامين على الأقلّ.
من علب المصبّرات الفارغة،صنع لنا لعب "المولد"حيث جعل ثقوبا على قاعدة كلّ واحدة ،ثمّ من السّلك مقبضا لها..حشوناها بالورق والقشّ وأشعلنا النّار داخلها..أخذنا نجري ونلتفت وراءنا لنلحظ الدّخّان والّذي سرعان ما يتبدّد كالسّحاب ..ضحكاتنا تملأ المكان مع رقصات ثيابنا الفضفاضة والرّثّة وتطاير خصلات شعرنا الغجريّ النّافر..لم نشعر بالتّعب ولا الضّجر.. لم نتوقّف عن الحركة والدّوران والغناء:"مولود النّبي،مولود النّبي،ولدتو آمنة،رضعتّو حليمة..."أجسادنا طربت وتناغمت مع أرواحنا البريئة،لم يثنينا ساعتها برد ولا رذاذ المطر الّذي شاركنا هو الآخر لعبتنا فلثم وجوهنا وأنعش قلوبناالبريئةوطهّرها.
لم نتوقًف إلّا عند بكاء أخي الصّغير الّذي عجز عن ملاحقتنا.
لقد أثّرت فيّ رائحة الطّعام المنفلتة من القدرأيّما تأثير، فدغدغت حاسّة شمّي فتنبّهت معدّتي،إنّها رائحة مميّزة على غير العادة،انبعثت أيضا من البيوت المجاورة.
كان لغطغطة"البرمة" الفخّاريّة صوت خاصّ انبعث من غطائها المتحرّك،وأمّي تتفقّدها من حين لآخر وعقدة منديلها الزّهري المتدليّة على جبينها تتجاوب مع البخار المندفع عند رفعه، وهي أشدّحرسا عليها وعلى لحم الدّيك الّذي سمّنته لهذا اليوم بالذّات مدّة حول كامل.
أنهى أبي صلاة المغرب،طوى سجّادته،اجتمعنا حول قصعة الطّعام،انقضضنا عليها انقضاض الطّيور الجارحة..ملاعقنا أبت أن تستسلم وقتها حتى امتلأت بطوننا الخاوية.
انتقلت وإخوتي إلى الغرفة المجاورة،بسطنا زربيّة بعد صراع مرير معها وأجسادنا الصّغيرة تقاوم ثقلها كنملات تسحب جرادة قد استسلمت أخيرا؛ كانت أمّي قد نسجتها من ثيّاب متروكة بمعاونة جاراتها في الصّيف الفائت وأخريات مثلها متراصّة فوق بعضها لزمهرير الشّتاء.
تلفًعت أمّي برداء،وخرجت متوجّهة صوب غرفة منفردة تستعمل لأغراض شتّى.
انتظرنا ما يقارب النّصف ساعة..رجعت بكانون من الجمرالمتوهّج..موضوع على غطاء من الفلّين لكي لا يحرقها..وضعته أرضا ..أحضرت قطعا من " الجاوي" دقّتها بمهراس نحّاسيّ،ثم ذرّتها فوق الجمر.
انتشرت رائحة العقّار..أصبت لحظتها بغثيان ونقص في التّنفس،كدت أختنق،فأسرعت هاربا إلى باحة المنزل طالبا جرعة هواء نقيّ.
نسمة باردة داهمتني..ليلة من ليالي كانون الثّاني،أنذرتني بالعودة حيث الدّفء .
أنتهت طقوس البخور،وحان موعد الشّموع و"الحنّة".
- لا أريد أن أن تحبس يديّ داخل خرقات حتٌى الصّباح يا أمّي الحنونة..!
- يجب أن تحنّي..إنّها بركة "المولد..!"
أعرف أمّي عندما تصمّم على أمر..لكنّني
رجوتها كثيرا..قبّلت رأسها..داعبتها قليلا.رضيت أخيرا، بابتسامة مسحت محياها،خضبت لي السّبّابة والوسطى من أصابعي.
تسمّرت نظراتنا مع رقصات أنوار الشّموع المختلفة الألوان والأحجام تارة ومع ظلالنا المخيفة على الجدران البائسة تارة أخرى..صوت الكلاب متواصل في الخارج..عراك القطط أثار جلبة فوق القرميد مع مواء حادّ..تكوّرنا تحت الغطاء.. غلبنا النّعاس؛ تركنا الشّموع تبكي في مواقدها.
عبد الستار عمورة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق