عندما صمتَ العقل…
في مدينةٍ رماديةٍ لا يميّز صباحُها عن ليلها، عاش شاب اسمه نديم، معروفٌ بين الناس بذكائه وحدة بصيرته. كان يرى ما لا يراه الآخرون، ويسأل أسئلةً يهرب منها الجميع.
لكن المدينة لم تكن تحبّ الأسئلة…
كانت تحبّ الطاعة فقط.
مع مرور السنوات تغيّر نظام المدينة،
وصار هناك مجلس يُسمّى مجلس السكينة. كان هدفه – كما يقولون – “منع الفوضى الفكرية”.
أصدر المجلس قوانين جديدة:
لا تناقش أكثر من اللازم.
لا تُحلّل ما لا يعنيك.
لا تُظهر ذكاءك أمام العامة كي لا تُتعبهم.
ضحك نديم يومها وهو يقول لصديقه:
“هل أصبح التفكير جريمة؟”
لكن الضحكة لم تدم طويلًا…
بدأ الناس يراقبون كل كلمة.
صاروا يخافون من الفكرة أكثر من خوفهم من المرض.
حتى الأذكياء، الذين كانوا في الماضي شموع المدينة، صاروا يُخبّئون ضوءهم كي لا تُطفئه الرياح.
وفي إحدى الليالي، بينما كان نديم يكتب أفكاره في دفتره، سمع طرقًا على الباب. دخل رجلان ببدلات داكنة:
– “وصلتنا تقارير… أنك تفكّر كثيرًا.”
– “أفكّر؟! ومتى كان التفكير تُهمة؟”
– “من اليوم. هذه القوانين الجديدة… لحمايتك.”
سُحب الدفتر من يده، ورُميت أوراقه في النار. اشتعلت الكلمات أمامه كما لو كانت آخر ما تبقى من روحه.
مع الوقت، لم يعد نديم يتكلم كثيرًا.
صار يصمت…
ثم يصمت أكثر…
حتى فكرُه الذي كان يركض كالخيول،
بدأ يمشي ببطء، ثم يتعثر.
وبينما جلس وحده ذات مساء،
سأل نفسه:
“هل أصبحتُ أضعف…
أم أن العالم صار ضيقًا على العقل؟”
ابتسم بسخرية حزينة، وهمس:
“لقد وصل الزمن الذي يُمنع فيه الأذكياء من التفكير…
حتى لا يُسيئوا إلى الحمقى.”
كان يعرف أنه ليس وحده…
هناك كثيرون مثله، لكنهم صمتوا، واحدًا تلو الآخر.
والمدينة؟
تخلّت عن نورها، وراحت تمشي في الظلام، متصورةً أنها تسير في الأمان.
حين يخاف الناس من الذكاء…
ويعتبرون التفكير خطرًا…
فإن الحماقة هي التي تحكم،
والنور يُطفأ بيد من يحتاجونه أكثر من غيره.
سالم حسن غنيم

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق