قصة. " الرحيل الأخير"وحدها الصدفة جعلتني أكتشف أنه قد قضى نحبه،مرات كثيرة كنت أمر بالقرب من دكانه فأجده دائما مغلقا،وكنت أعزو الأمر إلى غياب قسري أو طارئ وبعدها سيعود الى حانوته،على زجاج المحل،ألصق تلك القولة الشهيرة التي أمرني بكتابتها على الحاسوب"لو اجتمعت الانس والجن....جفت الاقلام وطويت الصحف" تكرر المرور من امام الحانوت،ودائما أبرر الغياب بالأفلاس الذي اصأب مهنة الخياطة وبيع الرتب العسكرية،وبالأمس وفي هذا اليوم المشؤوم،كنت اتجول داخل السوق النموذجي من أجل التبضع،هناك تعرض سلع مختلفة،وقد تصادف شيئا نادرا تبحث عنه،كنت اتأمل في مكتب متقن الصنع،فجأة سمعت صوتا أعرف صاحبه،إنه"السبع" الذي يلتقط كل الاخباربالمدينة، وسلم بتفاصيلها الصغرى والكبرى،وبأدب قال لي:"خالد عطيني درهم" منحتها له،خصوصا أنني اتعاطف معه،وقد جربته مرات فوجدته سخيا،حتى لو كنت تمزح معه،ففي بني ملال وجدته يأكل التين الشوكي،وأصر على ان آكل وهو سيؤدي الثمن،قلت له مازحا:لقد ضاعت مني محفظة نقودي فهل تقرضني عشرة دراهم ريثما اصل لتادلة وأعيدها لك،وبسرعة اخرج لي ورقة من صنف عشرين درهما،شكرته،وقلت له:انا اردت ان اختبرك فقط.
مقابل الدرهم الذي منحته،قال لي:خالد راه مات ولد الشهبة،قلت له: شكون ولد الشهبة ماعرفتوش،اجابني انه الخياط الذي يوجد محله بالحي الاداري(الكانترات) ،امام هذا الخبر،كنت واقفا وجلست...با الشرافي محمد مات،الرجل الذي كان يستقبلني بمحله في سنوات البطالة التي عشتها مات ،الاسد الجسور مات،رجعت بي الذاكرة لسنوات خلت ،حين اقوم بزيارته في محله،فبمجرد وصولي إلى مقر عمله كان يقول لي:ماذا تشرب لشاي أم المشروبات؟،وبسرعة يتسلل إلى الخارج،ويحضر المسمن او السفنج والحرشة،كان مهووسا بكتابة الشكايات،ولايتنازل عن حقه،يكتب الى جميع الوزارات،لايخاف في الله لومة لائم،مايزال يحتفظ بنسخ من شكاياته في محله،والتي قد مرت عليها عقود...مرة ونحن في محله ...اخرج من حقيبة صغيرة بطاقة انخراط حزبية موقعة بخط يد المهدي بنبركة،ساعتها عرفت لماذا كان يمتلك عمقا سياسيا كبيرا،وتحليلا مفصلا لكل الأحداث التي عرفها المغرب،(احداث شهداء الكوميرا 1981 ،واحداث مولاي بوعزة،واضرابات 1984،واغتيال عمربن جلون والمهدي بنبركة،ومعرفته الدقيقة بمعتقلات الكوربيس وغبيلة،وضيعة مازيلا،ودار المقري،وتزممارت ،وكان له معرفة بشيخ العرب،والمانوزي وعمر دهكون وسعيدة لمنبهي...والزرقطوني ..
اصبت بالدوار..وصوت السبع يتردد صداه بأعماقي"مات الشرافي" كدت أتوجه إلى منزله لرؤيته...انه لم يمت،سأجده بالصاكا يشتري بعض حاجياته،با الشرافي لايستسلم للمرض،بالرغم انه تجاوز العقد الثامن فهو دائم الحيوية والنشاط،ببذلة راقية وربطة عنق زاهية،لقد كان خياطا محنكا،وذو تجربة في تصميم البذلات،بل انه الوحيد في تادلة المتخصص في صناعة الزي العسكري،والرتب العسكرية،ولاينافسه أحد في المدينة في المهارة والاتقان،وميزته انه يضع لمسته الفنية على الازياء العسكرية،ولايخطئ في المقاسات،كان معروفا ومشهورا لدى رؤساء الثكنتين العسكرية،سواء ثكنة المشاة المعروفة باسم "حامية عسو السلام"او الثكنة الجنوبية التزحلق على الجليد..يعرفونه بمختلف رواتبهم،وهو وحده الذي يمتلك الرخصة لمزاولة هذه المهنة، وكان لايثق في اي زبون الا اذا منحه بطاقته الوطنية..
في كل مرة ينادي علي ليخبرني بأن جوابا على رسالته قد وصل من محكمة النقض والابرام،او محكمة الاستئناف ،او وزارة الداخلية أو وزارة البيئة ،كان "باشورافي" يخوض حروبا كبيرة ،ويفتح على نفسه جبهات كاسرة،لكنه كان صلبا لايهزم...وفارسا يصول ويجول،لايشق له غبار،تقاسيم وجهه توحي بالذكاء.
كيف اكون آخر من يعلم أنه مات...؟ لم ينشر خبر وفاته،ولم يحدثني احد عن موته،لقد عاش وحيدا ومات وحيدا..كان بلا اولاد ولازوجة،طويت صفحته بسرعة،ولم اصدق حديث "السبع"حين قال لي:لقد مر على وفاته خمسة عشر يوما"
سأسأل عن قبره لكي أزوره...كان لي بمثابة الأب الثاني...لقد أحب في صفات النضال والمقاومة..وكان يضحك في كل مرة حين يتذكر انتي كنت اكتب البيانات الحزبية لوحدها،وكان تأثيرها قويا وعنيفا وشرسا..
رحم الله با الشرافي محمد الرجل الطيب،وجعل مثواه الجنة،وغفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر ،وأكرم مثواه...رفقة الصديقين والانبياء والصالحين...
خالد عبداللطيف

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق