صور في ذاكرة متعبة
ص/31
.....في الجهة الجنوبية من جدار كوخنا، جلست أمي على حصير بالي تلتمس الدفء من شمس الأصيل، حيث يميل الطقس الى البرودة ، كانت تغزل قليلا من الصوف وأنا أستند برأسي على ركبتها أراقب المغزل ودورانه السريع، وكركراته وسط قاع جرة طينية مكسرة، كانت تترنم بترنيمة لا أفهم معناها سوى أنها بدت لي حزينة حزينة، سجع بدوي ضارب في الأثر، يهدهدني صوتها ليحلق طيف النعاس على جفوني، فتوقظني وخزة الجوع ، أتجرع هذا المر بصمت إجلالا لدمعة سقطت من عين أمي ولامست خدي ، وليقيني أنه لا يوجد في الكوخ ما يسد الرمق، فإنتظار طعام العشاء الزهيد هو ما أتأسى به وأنكمش في سكون وألتصق بأمي، وفي قلبي قهر وحيرة لم أفقه كنهها ولم أستطع ترجمتها .
عاد أبي إلى الكوخ غروبا ومعه قطعة كبيرة من البلاستيك و بعض من ( شكائر الخيش) و أوتادا وخيوطا ولوازم أخرى، أنزلها من على ظهر الحمار ونادى أمي بأن تتهيأ من الغد وترتب أغراضنا القليلة لرحلة جني الزيتون في الساحل التونسي ، آه إنها تغريبة جديدة و مجهول وأيام شقاء وليالي شتاء أخرى لا تقل ضراوة وقساوة من سابقاتها،
_ متى سيكون هذا الرحيل؟ تساءلت أمي
_بعد غد إن شاء الله سنذهب، عمل وفره لي أحد معارفي وأشعل سجارة بعصبية واضحة، سحب الدخان بعمق وخرج بركانا من القهر والتمتمات
_لايهم نذهب نعمل ونشقى ،هذا نصيبنا في هذه الحياة إما الصراع وإما الجوع والموت و علا صوته وراح يسب فرنسا والعرب و كل من خذله منذ جاء إلى هذه الدنيا ، تركته أمي وهو لايزال يزمجر راحت تجمع حطيبات لإحظار عشاءنا البسيط ولتنتهي عقوبة الجوع المفروض من زمن لم نرى منه بقعة ضوء ولا من رتقه شعاع أمل نلوح منه إلى العالم إننا بشر ونريد أن نحيا وأن لا تسخر منا إنسانيتنا المغيبة .
... أوصل أبي ( شكائر الخيش) ببعضها ثم ألصقها بقطعة البلاستيك الكبيرة وثبت عليها خيوطا وأوتادا صغيرة لنعرف بعدها أنها خيمتنا ومأوانا في رحلتنا القريبة ، نحن نعيش في عالم متوحش تقلصت فيه مساحات الرحمة والصفاء مارد الفقر يطارد أمثالنا يتعقبنا يضج نومنا وصحونا ، يسلب منا كل أثر للنعمة والفرح ، لا أدري كيف أحسست في داخلي ببعض من الفرح والرضى بهذا التغير في الزمان والمكان ، أ لجديد سيبدل من حالنا ولو قليلا؟ أم للبؤس والرتابة والفر اغ المقيت الذي نعيشه وسط وخارج الكوخ؟
هذه البلدة المعدمة وأهلها الراكدون، المنشغلون بوهم كاذب في وطن كسيح مازالت أضافر وأنياب المستعمر تمزقه ببقاياه، بارقة أمل صغيرة لاحت من بعيد سأتقفاها وسأنفخ ملأ أوداجي في هذه الشرارة لتشتعل نارا مباركة تأكل هشيم الفقر والشقاء...إطلالة أخرى لعالم غريب جديد جوانبه شقاء وتعب يهد أوصال أمي وأبي وباطنه رجاء وأمل بغد ربما سيمنحنا هدنة في حرب نخوضها بصبر عسى أن يتغير حالنا إلى الأفضل......
يتبع
سالم عكروتي /تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق