المغادرون.. بقلم الأديب عبدالستار عمورة

 


المغادرون.. بقلم الأديب عبدالستار عمورة

قصة قصيرة

المغادرون

كانت بالقرب من المحطّة شجرة الّلبخ المخضرمة، الباسقة بكبريائها شاهدة على مرورهم من هنا إلى هناك.

ودّعتهم وثغورهم المبتسمة مع عقولهم المتحجّرة والحالمة..إنّهم فتية صغار،داعبتهم شعيرات ذقونهم وشواربهم فاهتزّ عنفوان شبابهم المتمرّد.

تحمّست ومعطفي"البالطو"الّذي تركه "الرّومي"لجدّي"الخمّاس"أنذاك..

 رغبت أن أتواجد ووجهتهم المعتوهة؛تقاعست فجأة.. شيء ما شدّني بعنف.

صبيحة باردة جدّا من شهر "موقد النّار"، بسط الجليد رداءه الزّجاجيّ الشّفّاف على أديم الأرض؛كنت متدثّرا بإرثه القاتم ذو الرائحة النّجسة..جلت ببصري، أحضرت صندوقا خشبيّا متروكا تحت قمرة شاحنة؛ ورثها الأطفال للإختباء فيها عند الّلعب لعبة"الغميضة" مع ترانيم صفير القطارالمزعجة في أوقات الدفء:"هيّا هيّا.. نجري جريا..غطّ البصرا..وخذ الحذرا..أنا في الخلف..أنا في الصّفّ..أنا يمناك..أنا يسراك..سارع سارع..أنت البارع..أدرك ندّك..تبلغ قصدك"أنشودة ولا أروع،اهتزّت لها ستائر وجداني؛شيء لن أتنازل عنه بتاتا..طفولتي البريئة المهضومة قسرا..!

بكيت حدّ النّشيج هذه المرّة على مرأى الجميع..أيّام الصّبا لم أذقها..لم أنعم بها..ضاعت فوق صهوة جواد جامح..انتظرتها لكنها لم تعد! 

تراقصت ألسنة النّار،تجمّع عدد لابأس به من المنتظرين،مدّوا أكفّهم يصطلون.

لبثت أنصت لحسيسها وقلبي يضيق ويضيق، يتضاءل مع وهجها. 

حرّك طيف الشّيطان وتده، بدأت أتذكّر..أخذت أرتجف؛ أدركت تماما معنى أن أصمد ومعنى لوعة الفقد.

تساءلت لحظتئذ عندما اغتصبت غصنها كي تبقى مستعرة و نستمرّ أكثر:

-أتبكي وتنتحب وقد فصلته عنوة عنها وهو مازال طريّا فتيّا..؟!

رحت ببصري بعيدا..رسمت لوحة تحاكي طيور السّنونو وهي تستعدّ لمفارقة الأوطان..تخلّيت عن لوحتي الخياليّة..تأوّهت وأنفاسي المثلجة مع بخار الصّقيع:"لكن أنا لي وطن واحد،لن أرضى بقيود العار والخنوع." 

مسحت وجهي براحتيّ..دموعي تمرّدت على خديّ من الدّخّان الكثيف:

-أردتها أن لا تخبو أبدا حتى ترفرف أجنحة الفراشات وتتباهى الدّعسوقة فوق أزهار الفول البيضاء والمنقّطة بالأسود مفردة أجنحتها المخضّبة بالّلون البرتقالي.

بصعوبة كبيرة ابتلعت لعابي..غصّة مرّة لازمتني وهو يمنّيني مبتسما حالما:

"أعدك أن أحوك لك من خيوط الفجر رداء ومن أشعّة الشّمس دفئا ومن ضوء القمر سراجا"

تفرّقنا عندما انطفأت وأخذت الشّمس تحرق رؤوس أشجار الكافور المصطفّة قبالتنا من الضّفّة الأخرى..بقي الرّماد تلهو بذرّاته راحة الهواء البارد الممتدّة من أعالي الجبل.

 مجموعة من الغرابيب السّود كانت تترقّب المشهد بحذر شديد من فوق هامة الشّجرة الهرمة العارية والّتي بدت كشبح مخيف وهي تنعق تارة وطورا تسنّ مناقيرها القويّة على الأغصان المتململة وكأنّها تتآمر لفعل شيء ما.

التفت ورائي وجدتها قد باشرت بترك أماكنها..أحاطت بالرّماد..طفقت تنبش غير مبالية.

عدت بخفي حنين..أضعت طريقي..التوت رجلي..تدحرجت إلى الأسفل، من حسن حظّي أصبت بكدمات خفيفة.

مسدت رجلي، نظرت حولي، تفاجأت بضباب يكتسح المكان، احتجبت الرؤية.

تملّكني رهاب مفزع..صدحت بأعلى صوتي، وقفت وجلا مضطرب الأوصال،خطوت خطوات الضّرير؛ شيء ما رصّني فأثقل كاهلي المتعب..ربضت على ركبتيّ متسمّرا لاهثا ككلب الصّيد.

استيقظت من غفوتي وجدت نفسي في أرض قفر موحشة، إلّا من أحجار طُوِّعت وشُكِّلت وزُخرف بعضها؛ بصوت وجل صرخت:

-أنا في مقبرة الضّياع..!

قرأت شاهد قبر لمسته راحتي عند السّقوط:"صاحبه مجهول الهويّة"

طفرت دموعي من محاجرها..هجم الظّلام معجّلا..نعيب البوم نبّأني بالرّحيل؛ زهور الزّنابق وقطر النّدى المحتجزة معهم، رغم آلامها بقيت تؤنسهم. 


د.الأديب عبد الستار عمورة الجزائر.

16/03/2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شظايا الغياب...بقلمالشاعر محمد أكرجوط

 -شظايا الغياب- موجع غيابك حجب عني الإرتواء ولا قطرة تسد رمقي ولا نظرة تكفكف دمعي لتوقظني من غفوتي المشرعة على بياض القصيد  بلبلة حروفي  صدى...