فطرة...بقلم الأديب عبد الستار عمورة


 قصّة قصيرة

فطرة

فتأت دموعي نارا تأجّجت في فؤادي من لظى قساوة الأيّام و مغادرة الخلّان فلم أذق هذه الّليلة طعم النّوم.

تركت مكاني عند الفجر،دلفت مقهى شعبيّا عند زقاق ضيّق انبعثت منه رائحة العفن جرّاء عطب شاحنة القمامة فتكدّست الأوساخ و فرّقتها القطط و الكلاب.

تغلغلت رائحة القهوة في كياني فأحيت ذكريات كامنة لأيّام خلت و لن تعود أبدا.

انزويت في مكاني المعهود،رحت أحتسيها و أتأمّل بخارها المتصاعد.

صادفت جريدة قديمة رسمت على أطرافها خطوطا و مربّعات تشبه الطّلاسم،تركها "رشّام" لاعبي أحجار الدّومينو البيضاء و المزدانة بالنّقط السّوداء و الّتي لولاها ما التفّ حولها لاعب و لا سُمِع لها طرق.

-الوقت مازال مبكّرا،سأقارعه بتصفّحها ريثما تظهر أشعّة الشّمس همست و نفسي المتعبة.

وقع نظري على مقولة عالجت العنصريّة في كلمات قصيرة للرّئيس الزّمبابوي:

-لن تذهب العنصريّة طالما ما زالت الدّول المتقدّمة تصنع سيّارات بيضاء و تضع لها عجلات سوداء..

-لن تزول العنصريّة طالما مازالت الدّول المتقدّمة تضع أسماء المجرمين في قائمة و تسمّيها القائمة السّوداء..

-لن تزول العنصريّة طالما مازال الّلون الأبيض يدلّ على السّلام و الّلون الأسود على الحرب..

-لكن بالرّغم من هذا فأنا فخور لكوني أسودا!،لأنّي بكلّ بساطة مازلت أمسح مؤخّرتي السّوداء بورق أبيض! 

طفقت أفكاري تغوص في الماضي السّحيق:

-حتّى الغراب  علّم البشريّة رغم قتامة لونه يا سيّدي،لو قلت هذا لكان أفضل من تنظيف المؤخّرة..!

أسندت رأسي على ذراعيّ،غفوت لبعض الوقت.

نظرت لساعة هاتفي الخلوي:

-ياه،لقد تجاوزني الوقت،ستكون وجهتي الشّاطئ الرّملي.

كان عكّازي يسبق خطواتي المتثاقلة جرّاء التواء أصابني و أنا نازل من على سلّم العمارة.

أفرشت معطفي،و رحت أتابع هدير الأمواج و نعيق النّوارس و هيّ طالعة هابطة مع نسيم البحر تلتقط ما جاد به فضل الكريم.

استسلمت للهدوء و التّأمّل و ابتعدت بمخيّلتي بُعد الأفق مع أشعّة الشّمس الذّهبيّة و هي تغازل البحر. 

اجتمعت الخلائق و نصبت المظلّات..طغى الباعة و الأطفال..استحال السّكون.. تحوّل إلى حلبة للجلبة و المكاء و التّصدية.

كان بالقرب منّي طفل ببشرة بيضاء و عيون زرقاء و شعر كستنائيّ لم يتجاوز عندها الثّلاث سنوات مع أمّه و أبيه الّلذان استراحا تحت شمسيّة و تركاه يفتل الرّمل بيديه النّاعمتين و البضّتين..تارة يحمله و طورا يضعه فوق رأسه،مرسلا ضحكات ملائكيّة بريئة.

شدّني المشهد فانبسطت لحظتها و انفرجت نفسي المكتئبة.

ابتعت قارورة ماء،ارتويت من مائها بعد أن نشف ريقي، قبل أن أغادر اقتربت منّي سيّدة من الّلاجئات الإفريقيّات ببشرة سوداء و سرابيل رثّة، أكيد لم تتجاوز وقتها الخامسة و العشرين من العمر..مدّت يدها:

-"صدقة..صدقة.."

 كانت تحمل رضيعا، ربطته لظهرها بخرقة من القماش و قد أطبق عليه النّعاس.

 أمسكت بيدها قفّة و باليد الأخرى صغيرها ذو الأربع سنوات أو أقلّ..منظر تقطّعت له نياط قلبي.

 انتقلت من عندي إلى جهة الزّوجين و ابنهما..توقّفت عندهما بعد أن حرّرت صغيرها من يدها.

 دنا ابنها ذو البشرة الفاحمة و جلس قرب الصّبيّ ذي البشرة البيضاء ليلعب معه بالرّمل،ابتعد الصّبيّ الأبيض قليلا بعد أن صرخت عليه أمّه ثمّ رجع متثاقلا يجرّ خطواته جرّا..اقترب ثانية من الطّفل الأسود..لمس بشرته بيده..سحبها بسرعة..نظر إليها مليّا؛مسحها على الرّمل ليزيل أثر السّخام.

 

 الأديب:عبد الستار عمورة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل اقول قصيدة؟....بقلم الشاعر علي الهادي عمر أحمد

 هل أقول قصيدة في مدح من يحلو لدي الحديث أم أتغنى بالحروف عشقا في ذكر من بالقلب يسكن الوريد وتظل أحرفي ترقص فرحا في هوى من جعل القلب عبيد وي...