خفايا القلوب.. بقلم الأديبة والشاعرة/فتحية أشبوق

 


قصة قصيرة //  خفايا القلوب .  

-----------------    -------------------


أُضيئت مصابيح المدينة معلنةً رحيل يوم  كان كسابقيه...لا جديد يُذكَر فيه..

 مستقبلةً بأنوارها الساطعة ليلةً من ليالي الخريف الباردة..

لملمتُ أغراضيَ، و دفعتُ الحساب للنادل

ثم سرت في طريقي باتجاه بوابة المقهى. و عندها استوقفتني فتاة طويلة شيئا ما، تبدو نحيفة رغم معطفها الصوفي الأصفر  الذي ترتديه.. نادتني باسمي و هي تحدّق بعينيها العسليتين اللوزيتين فيّ..

حاولت أن أمعن النظر إليها لعلي أتذكرها.

لكن دون جدوى.

اعتذرتُ منها أنني لا أذكر من تكون. بل لا  أعرفها.

مع ذلك سألتها عن حاجتها.

حاولتِ الفتاة أن تُذكّرني بها و باللقاء الذي جمعنا رفقة مجموعة من الصديقات الأخريات ذات مساء..

ذَكرَت لي تاريخ اللقاء و مكانَه. ثم صارت تسرد علي بعض القصص التي تداولنا الحديث عنها في مجلسنا ذاك..

لم تمض سوى لحظات قليلة حتى تذكرتها..نعم..

حضرَتِ الآن صورةُ المشهد و تذكّرتها بعد بحث مضنٍ و نبش متعب في الذاكرة!

سألتُها عن أخبارها و أحوالها. ليأتيني جوابها بصوت أقرب إلى الهمس الباهت : بخير..! 

لم يكن الأمر ليَخفى عليّ...

أعلم جيدا هذه الإجابة مع تلك الملامح الذابلة، و نبرة الصوت المرتعشة. وقد أحسستُ بحرارة الزفرة التي أطلقَتْها..

ما جعلني أطلب منها إن لم يكن لديها مانع أن تسمح لي بمجالستها قليلا..!

 وافقَتْ، فاتجهنا صوب مقعد مريح. طلبنا فنجانين من القهوة المحلاة..سألتها: ربما أنّ معرفتنا ببعضنا ليست بالعميقة، لكن لا أنكر أنك كنت و لا تزالين فتاة مميزة...أذكر يوم لقائنا ذاك مع صديقاتنا يومها كنت الأكثر مرحا فينا و صوت ضحكاتك كان يعبق المكان بها و يضفي على الجلسة متعة و رونقا كلنا سعدنا بها...

 اسمحي لي إن تجاوزت حدودي معك و سألتك : ما بك؟ ما الذي حدث معك؟؟

 أتتني إجابتها كمن كان ينتظر أن يسمع أحدهم يُلقي عليه السؤال ذاك. سرحت بعينيها فيما حولها و دون أن تتوجه بنظراتها إليّ مباشرة

بل جعلَتها تسافر عبر نافذة المقهى الزجاجية...توزعها بشكل عشوائي.لم تكن مهتمة أن تجعل عينيها تستقر على شيء محدد. لحظات مرّت ثم وجدتها  تطلق العنان لقلبها

أزاحت عنه كل الحواجز..و رفعت عنه كل الحجب..و استهلت حديثها بقولها : 

- أ تعلمين أكثر ما كسرني ؟؟

إنها وحدتي. و صمتي الطويل!!

استمرت في سردها

( أتعلمين أن هذا القلب القابع في صدري أشعره  قد امتلأ إلى درجة ما عاد يستوعب المزيد... أحتاج حقا الى من ينصت إلي باهتمام...من يزيح عني غماما صار يعشعش في صدري..)

تابعتُها بنظراتي الفاحصة....

فإذا بها في خضم حديثها حاولت أن ترسم بسمة على وجهها ...باهتة كانت ملامح شفتيها. شعرت لحظتها أنها تجاهد كي تفتعل تلك البسمة التي خفقت وما أفلحت في رسمها..

تكابد أن تمنع تدحرج دمعات عالقات بأهداب أشفارها.

رغم كل ما تحمله من انكسار و إحباط اكتشفت أن كبرياءها ما زالت له السطوة و السلطة عليها..لم تنل منها أحزانها رغم كل ما مر بها شيئا.

 بقيتُ على حالتي معها.  فقط أصغي اليها..

فقد أيقنتُ أنها بحاجة إلى من يفسح لها مكانا في قلبه...

من يبدي لها اهتماما بحالها 

من يُشعرها بوجودها و لو أن يمنح لها إصغاءه....

برقت عيناها..حاملة دمعات تدفقت منها بسرعة  هذه المرة على خديها. باغتتها هذه المرة...أسرعت بطرف كفها تمسحها قبل أن ألحظها...

و كيف تغيب عني و أنا عيناي لم تفارقها...؟

 غير أني أوهمتها أنني لم أر شيئا و لم ألحظ تلك اللآلئ التي جادت بها عيناها، و اعتصر لها قلبي كمدا....

أدرك تماما أنها ليست بحاجة لشيء بقدر حاجتها إلى من ينصت إلى فضفضاتها...

مثقلة جدا هي. بحاجة إلى إفراغ أثقالها...بحاجة هي إلى من يشعرها بدفئ الكون رغم الصقيع الذي يهب من كل أفق....

تركتها تتحدث و انا لها المنصتة باهتمام شديد

ففاض حديثها بظروف عاشتها لم تكن على موعد معها..

غيرت من مجرى حياتها.

أخبرتني كيف غدر بها الزمن ففارقت عملها و كيف تبدلت أمور في حياتها كان لها بليغ الأثر عليها.

أشخاص غيّبهم التراب و آخرون تاهوا في زحمة الحياة فما وجدت إليهم سبيلا..

تركْتُها تسترسل حديثَها و أنا أصغي إليها و أتابع معها بكل اهتمام، و قد شدتني حكايتها إلى التعرف أكثر على هذه الظروف و كيف انتهت معها.

حين فرغَتْ من بوحها عمّ الصمت بيننا لبرهة. 

ثم شعرت أنّ الوقت حان لأتحدث. هو دوري الآن. 

تحتاج إلى من يُسمِعها كلمات تنتشلها من قوقع الأسى و يعيد الحياة إلى عروق قلبها أملا و تفاؤلا. 

أثنيت على صبرها و ذكّرتها أنها قوية. فغيرها في نفس ظروفها ربما كانت حالته قد صارت أسوء و أكثر تدهورا. 

هي لا تزال تقاوم و ستنتصر و تتجاوز عناد الأيام معها. متأكدة أنها ستنجب من رحم محنها منحا تكون طوق نجاتها إلى أيامها القادمة.

فاض الحديث بيننا و مرّت ساعات لم نشعر بها، إلى أن عادت البسمة و علت الضحكات بيننا 

صديقتي كانت تبحث عن من تتخفّف عنده من أثقالها و حمولها. و تنطرح بين يديه وتطرح عنها بعضا مما صار يرهق قلبها و ما عاد صدرها يتّسع له. حتى تصير أفضل حالا.

وهذا ما حدث معها فعلا.

فلم يمض من الوقت كثيرا....حتى بدأتُ ألمح أسارير وجهها تنفرج...كما السحب التي أزاحتها أنوار الشمس القوية الساطعة، التي تظهر بعد طول انتظار.

فاجأتني حين قامت  من مكانها راسمة بسمة مشرقة على وجهها.و كأنها قد صارت بها أخرى

فتاة أشرقت أنوارها. وجهها متهلل...تخففت من أعباء كانت تثقلها.

قامت إلي في خفة لم تكن بها قبل قليل .أخذتني بين ذراعيها فعانقتني عناقا شعرت فيه بدفئها و لمستُ الراحة التي صارت عليها!!

شكرتني بكلمات و عبارات ردّدَتها و كرّرتها و أصرّت أن تعيدها كثيرا.

و أكبر ما قالته لي: لن أنسى صنيعك معي.

أشكرك لأنك استمعت إلي . و اهتممت بتفاهاتي و تحمّلتِ ما افرغته بين يديك من  هموم و أوجاع .. كنتِ خير قلب ينصت لما بثثته إياك. 

لقد كنتِ سببا في عودة الحياة إليّ، كشجرة أوشك الخريف أن يقتلع جذورها لا أن يُسقط أوراقها منها فحسب..

لقد رويتني بحسن إصغائك...و بكلماتك التي كانت البلسم لي حقا....!!

غادرنا المقهى و كلنا أمل أن يكون لقاؤنا القادم أجمل و أسعد.

ودّعتها، متمنية لها أوقاتا سعيدة بعد أن تبادلنا ارقام هواتفنا..سأطمئن عليها و سأكون بجانبها كلما أرادتني لذلك.

ثم سرتُ في طريقي صوب وجهتي ؛ المنزل. 

و ذهني يقلّب أمرا، أتعجب منه : وِديان الناس تختلف و كذلك شطآنهم، و  جميعنا بحاجة الى مرساة تمنحنا الآمان و تريح قلوبنا من فزع الأيام و تشعرنا أن لسنا لوحدنا في موكب هذه الحياة.

مرساة  نرى فيها نجاتنا

و كثيرا ما تكون هذه المرساة ما هي الا إنصاتٌ نحظى به من أحدهم.. كأقل تقدير. نعم هو ذاك.

هززت رأسي و انا أتأمل الفكرة. كم يبدو الأمر جيدا ان تجد من يسمعك و يمنحك بعضا من وقته و اهتمامه و يشعرك بوجودك في هذه المتاهة الكبيرة التي نعيشها.

 فجأة هبّت ريح باردة، اقشعر لها جسدي.

ضممت إليّ معطفي ، و وضعتُ يديّ في جيبي

و حثثتُ السير مسرعةً عائدة إلى...........وحدتي !!!!


                                       _فتيحة أشبوق_

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شظايا الغياب...بقلمالشاعر محمد أكرجوط

 -شظايا الغياب- موجع غيابك حجب عني الإرتواء ولا قطرة تسد رمقي ولا نظرة تكفكف دمعي لتوقظني من غفوتي المشرعة على بياض القصيد  بلبلة حروفي  صدى...