جائعة لساعة المغيب.....بقلم الأديب د.عمر أحمد العلوش


 جائع لساعة المغيب


مضى أكثر من ربعِ قرنٍ وأنا ما زلت جائعاً لذلك المغيب أصحاب وأصدقاء اعتدنا عصر كل يوم أن نخرج وصولاً إلى

مغيب الشمس ، مروراً بحرشٍ هرمت جذوعه وهي تحمل خطوط ذكرياتنا التى حفرناها بقلوبنا قبل تلك الجذوع وكلها

حنين و أنين لأيامٍ خوالي ، هيَ لِي ماضٍ من العمر وآتٍ .

ربيع بكر في (زميون ) ينتظر وطأة أقدامنا ورفقة الكتاب هو من مستلزمات المسير للشمس ، يمر بجانبنا المخذولون والمحبطون  الذين اعتادوا على ارتياد ذلك المكان وقت الغروب .

قالوا إن الإنزواء مع الطبيعة يخفف من سلطان الإحساس بالوحدة ، وهناك آخرون من كلا الجنسين يبغون ذلك المغيب للتحرر والإنعتاق من الإختناق والوحشة حتى البكاء ، نعم إنّ الأشخاص الوحيدون هم مرهفون في المجمل .


الشمس نقيّة بإصفرارها ، تُذَّهِبَ أغصان الأشجار  أغصان غلبت في مصالحة الشمس أن لا ترحل ،النّسوة اللّواتي كنّ في الطريق بشوشات ينتظرن غيمة ماطرةً تجلد وجوههن ، وكذا أذرعتهن، وظهورهن ، لتظهر محاسناً رسمها الله بأروع صورة جمالية ، بعد أول هبة ريح فلا يعرفن برداً ولا ضجراً .

الأطفال من حولهن ملائكة ، هم حكاية من التاريخ والقدر ، هم أنصع من الجليد والرخام في برائتهم .

في الطريق إلى (زميون) الرجال مسالمون ، والجمال يتصاعد من خلايا الأرض و ينبت من كل مكان حتى أنه يتسلل من تحت إبط الطريق ومن بين حجارته.

هي صورة من أيامي في مرآة روحي، يقيناً ، وقرباً ووصالاً و أؤمن بها ولو كانت ظناً ووهماً وخيالاً هي قلبي الساكن جنبي ، هي صورة تشبهني .

من السخف أن أمنح وقت هذا المغيب الرائع لأي كان ، كل الأنانية من حظي بإمتياز ، وبَلَل رطوبة المساء  يجعلني ﺃﺣﻦّ لذلك اﻟﺼﻘﻴﻊ الذي أرسلته الشمس الرؤوم لترضعنا فرحاً ليعتريني شعور من الغبطة والحبور في وجداني (لولا الحياء) أن أتمرغ بتلك الحقول كطفلٍ عابثٍ ، أوكحملٍ ثملٍ من ثدي أمه فراح يقفز بلا هدى لأنسى غربتي وإحباطي وخذلاني .

كل الرجال لا يطيقون الغربة ، فكل الفاتنات لايستطعن إخراجك من غربتك مثل تربتك ، حتى لو كنّ تلك الفاتنات وتلك الحسناوات وقورات .

مخنوق لوحدي و على قارعة الغربة الآن أمسيت بمقهى على ضفة نهر العاصي لأبكي غربتي وأنفرد بذلك النهر وعلى كتفه أنتحب ،نواعيره كأنها تنعي عزيزاً .

النهر لم ينتظرني ، قد أخفق في حمل غربتي ولم ينتظرني لأتبعه ، وتابع مجراه في رحيل  

الآن ..الآن عبثاً أحاول أن أتأقلم مع الزحام المرير ، والضّجة والصّخب و صياح الباعة و هم يبعيون كل شيء حتى الماء ، و أحياناً الحلم !!!

وجدتني أوبخ نفسي أنني كبرت ، ما كان ينبغي أصلاً أن أكبر .

الآن لا أعرف لماذا تذكرت  كسرة الخبز  المدهونة  بالسمن والمرشوشة بالسكر من يد أمي .

وكم أنا بحاجة ماسة(اللحظة) إلى خرقة الماء المبلولة على جبيني المحموم تطمر بها وجهي ، من يد أحببتها ،  لأخفي دمعة إحترقت ، فأنا جائع لذلك المغيب ، جوع مطمور منذ أكثر من ربع قرن .

وبقية أغنية أم كلثوم حزينة في المقهى ، و لحنها يتلهوج على نار فحمي وهي تصدح وكلها حزناً.


(أهرب من قلبي أروح على فين)


د. عمر أحمد العلوش/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل اقول قصيدة؟....بقلم الشاعر علي الهادي عمر أحمد

 هل أقول قصيدة في مدح من يحلو لدي الحديث أم أتغنى بالحروف عشقا في ذكر من بالقلب يسكن الوريد وتظل أحرفي ترقص فرحا في هوى من جعل القلب عبيد وي...