صور في ذاكرة متعبة
ص/21
....أبي الرائع ،معتد بنفسه قليل الكلام كثير الوجوم ، ملامحه الجادة والحادة أحيانا لا تترجم مساحة اللطف والرحمة فيه ، الفقر والخصاصة ينهشانه من كل جانب وكل حين ، الضروف الصعبة والأيام الحالكة وعائلة تثقل كاهله وطلبات وأفواه صغيرة تحدق في الفراغ ،
... ينفث دخان سيجارته ، الصمت و الوجوم يخيمان ، أمي المسكينة الصبورة لا حول ولاقوة لها وسط هذا المشهد الباهت والحزين ، تحاول عبثا لملمة ما تبقى من ألفتنا وجمع تراه يتشتت بفعل الحاجة ، تسكب الشاي في فنجان عتيق و تناوله أبي التائه بأفكاره ، ينظر إليها بنظرة رضى فيها من الإستعطاف واللطف الكثير،
_يا إمرأة بوزن الكون ، فراشة جميلة في حقل بديع ، إحترقت بوهج زمن مر ، وحر فصوله كلها صيف ، حزن يسع كل المدن ، ودمعة بحجم طوفان ، أيتها الأيقونة الصامتة الصامدة ، وحكاية تروى في صمت أبي وصبر أمي وفضاء شاسع صحراء ممتدة من الفقر و الإحتياج ،
دخان السجارة يتصاعد تغمرني رائحته بدت لي مستحبة وذكية وأنا أنظر في تقاسيم وجه أبي و تراودني أمنيات أن أكون مثله . حتى أفهم وجومه وفرنسا وحكايات السجن والعسكر وأسرار أختفت و ولعنات وتمتمات لم أفهمها تخرج دفعة واحدة كلما إستشاط أبى غضبا وقهرا على حالنا البائس الأعرج ، كم أنت رائع أيها الرجل.
هكذا تمر أيامنا رتيبة وشاقة، تتمدد أمانينا كالظل وتتراجع وتخبو وتنطفئ شعلة الحلم والحماسة ،كلما غربت شمس رجاءنا الممنوع وتلاشت غفوات لذيذة وأحلام نتملكها في الليالي المقمرة الجميلة لتفتكها منا صحوة رهيبة ونور صباح لا نتظر منه شيئا سوى بؤس ويوم جديد نستهلك فيه أيام عمرنا ونجتر خلاله وجعا مستديما .
سحابات قليلة تتوسط السماء وطيور (اليامون) بألوانها البديعة تطير في كل إتجاه تتعقب أسراب النحل ، المناور بفزع ، كنت مستلقيا على ظهري ، أغمض عيني وأفرك أصابعي بإبتسامة صغيرة وعين نصف مغمضة حالمة ، تحملني السحابات البيضاء وترافقني طيور (اليامون) لحقل مزهر وفاتنتي الصغيرة تمد يديها لتتشابك الأصابع، ونتراشق بالضحكات الجميلة والنظرات الصامتة كما يتراشق أهل الشمال بقبضات الثلج وحفنات المياه .............. يتبع
سالم عكروتي (أبوعيسى) /تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق