وحدة وتقوقع.٦٤....بقلم الشاعر إبراهيم العمر


 وحــــدةٌ وتقوقــــع. ٦٤

إبراهيم العمر.


كنتُ أهربُ من الناس،  

أفرُّ من الأحداث والمناسبات،  

أتنكّر للجمعات والاحتفالات،  

أسطو على الوقت،  

أجمعُ الدقائق واللحظات،  

ألملمها، واحدة فوق الأخرى،  

حتى تضيع بين أكوامٍ من اللمحات.  


كانت الفكرةُ أكبر من رمشة عين،  

وكانت العين تضيع خلفَ الرمشات،  

كانت الهواجسُ أوسع من المسافة بين التكّة والتكّة،  

وكانت الوساوس تولد وتنمو بين التكّات،  

لم تكن الومضة تكفي لنضوج الفكرة،  

ولم يكن هناك الكثير من الومضات،  

كنتُ أتلوّى بين الرهبةِ والرهبة،  

حتى باتت الرعباتُ تسكنني،  

ولم تكن المسافة التي يقطعها عقربُ الساعة  

بين الثانية والثانية  

تكفي لاكتمال المخاوف والاضطرابات،  

لثورة العقل،  

لتحطيم القيود،  

لتمرد الرغبات.  


كنتُ أتهربُ من الدعوات،  

أختلقُ الأعذار والروايات،  

أقنعُ نفسي أنني أحبُ الوحدة والانطواء،  

أنسجُ حولي صورةً متماسكة،  

أحيطُ نفسي بالواجبات،  

وأرسمُ للفراغِ أعمالًا وفروضًا وهمية،  

فأختبئُ خلفها كي لا يلاحقني الصخبُ في الخارج.  


كنتُ أستهجنُ تلك الطاولات التي يجتمعُ حولها الشباب،  

يلعبون الورق،  

يتصايحون ويصرخون،  

يتبادلون الذمّ والقدحَ والشتائم،  

يهزأون من فلان،  

يضحكون على فلان،  

ينهشون أعراضَ الأقارب والجيران،  

في جلسةٍ،  

تغلفها القهوة،  

والفنجانُ يتبع الفنجان،  

والسيجارةُ تلحقُ السيجارة،  

والأحاديثُ تنسابُ بين الهزلِ والجديّة.  


الكلُّ يتحدّى،  

الكلُّ يتفاخرُ بالنصر،  

يضربُ على الطاولة،  

يلقي اللومَ على الورق،  

يلعنُ الشريك،  

يتوعدُ بالثأر في الدور القادم،  

بينما الخاسرُ يشتري سندويتشات شاورما،  

ويقدمُ عصيرَ البرتقالِ للفريقِ الرابح.  


تفرطُ الجمعةُ،  

كلُّ يوم،  

في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل،  

ويعودُ كلُّ واحدٍ لغرفته مترنّحًا،  

مترنّحًا من النعاس والتعب،  

بعد يومٍ طويل،  

شاقّ،  

خانقٌ برطوبةٍ ثقيلة،  

بلهيبٍ يسرقُ الأنفاس.  


نعم، كنتُ لا أجدُ نفسي في هذا العالم،  

كنتُ أستنكرُ تلك الحياة،  

أراها مجرّد هروبٍ مُغلّف،  

محاولةً فاشلةً لتبليد الإحساس،  

لطمس الوحشة،  

لتجاهل القروح،  

لتجميد الشعور،  

ولتغافلِ ما يجري خارج هذه الدائرةِ الصاخبة،  

حيث الإبداعُ يُخلقُ في الزوايا البعيدة،  

في عقولٍ ملهمة،  

تهيمن على الأرض،  

تمسكُ بمفاتيح المال والسلطة،  

تعبرُ فوق الغيوم،  

بينما تسحقُ الأكثرية،  

تُذوَّبُ في نارِ العبودية والسخرة،  

لتبحثَ عن كسرةِ خبز،  

من رغيفٍ قديم،  

يبقي ضرباتِ القلبِ نابضةً في الأضلاع،  

ويحفظُ جريانَ الدمِ في العروق.


إبراهيم العمر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شظايا الغياب...بقلمالشاعر محمد أكرجوط

 -شظايا الغياب- موجع غيابك حجب عني الإرتواء ولا قطرة تسد رمقي ولا نظرة تكفكف دمعي لتوقظني من غفوتي المشرعة على بياض القصيد  بلبلة حروفي  صدى...